كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



نقول: لولا عضة الباطل للمجتمع لما استشرفَ الناس للحق ينقذهم، فالباطل نفسه جُنْد من جنود الحق، كما أن الكفر جُنْد من جنود الإيمان، فلولا الكفر وما يفعله الكافرون بالناس لما اشتاق الناس للإيمان، الذي يُوفّر لهم الأمن والطمأنينة والراحة والمساواة.
كما أن معنى كَفَرَ يعني ستر الإله الواجب الوجود، والسَّتْر يحتاج إلى مستور، فما هو المستور بالكفر؟ المستور بالكفر الإيمان، فكلمة كفر نفسها دليلُ وجود الإيمان.
وسبق أن قلنا: إن الإنسان قد يكره بعض الأشياء، وهي لمصلحته ولحكمة خلقها الله، ومثَّلْنا لذلك بالألم الذي يتوجّع منه الإنسان، وهو في الحقيقة تنبيه له واستنهاض ليعلم سبب هذ الألم ويتنبه، فيدفع المرض عن نفسه، ويطلب له الدواء.
فالألم بهذا المعنى جُنْد من جنود العافية، وإلاَّ فأفتَكُ الأمراض بالبشر ما ليس له ألم يُنبّه إليه، فيظل كامنًا في الجسم حتى يستفحل أمره، وتعزّ مداواته؛ لذلك يصفونه بالمرض الخبيث؛ لأنه يتلصَّص في الجسم دون أنْ يظهر له أثر يدل عليه.
فالحق- سبحانه وتعالى- خلق الألم لحكمة؛ ليُنبّهك أن في موضع الالم عطبًا، وأن الجارحة التي تألم غير صالحة لأداء مهمتها؛ لذلك يقولون في تعريف العافية: العافية ألاَّ تشعر باعضائك، لك أسنان تأكل بها، لكن لا تدري بها، وربما لا تتذكر هذه النعمة إلا إذا أصابها عَطَب فآلمتك.
إذن: حين تعلم جارحتك وتتألم، فاعلم أنها غير طبيعية، وأنها لا تؤدي مهمتها كما ينبغي، فعليك أنْ تبادر بعلاجها.
وأيضًا حين يزدهر الباطل، وتكون هل صَوْلة، فإنما ذلك ليُشعرك بحلاوة الحق، فتستشرف له وتتمناه لذلك انتشر الإسلام في البلاد التي فيها أغلبية إسلامية، لا بالسيف كما يحلو للبعض أن يقول، إنما انتشر برؤية الناس لمبادئه وسماحته.
ففي بلاد فارس والروم ذاق الناسُ هناك كثيرًا من المتاعب من دياناتهم ومن قوانينهم، فلما سمعوا عن الإسلام ومبادئه وسماحة تعاليمه أقبلوا عليه.
فلولا أن الباطل عضَّهم لما لجأوا للإيمان، فالإسلام انتشر انتشارًا عظيمًا في نصف قرن من الزمان، ولم يكن هذا نتيجة الاندفاع الإيماني ليدخل الناس في الإسلام، إنما لجذْب الضلال للإيمان، فكأن الإسلام مدفوع بأمرين: أهله الحريصون على انتشاره، وباطل يجذب الناس إليه.
والحق- سبحانه وتعالى- يعطينا مثلًا للحق وللباطل في قوله تعالى: {أَنَزَلَ منَ السماء مَاءً فَسَالَتْ أَوْديَة بقَدَرهَا فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابيًا وَممَّا يُوقدُونَ عَلَيْه في النار ابتغاء حلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَد مّثْلُهُ كذلك يَضْربُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ في الأرض كذلك يَضْربُ الله الأمثال} [الرعد: 17].
فالزبَد: هو القشّ والفُتات الذي يحمله الماء، فيكون طبقة على سطح الماء، ثم يزيحه الهواء إلى الجوانب، ويظل الماء بعده صافيًا، فالزبَد مثل للباطل؛ لأنه يعلو على سطح الماء، لكن إياك أن تظن أنه ذو شأن، أو أن عُلوه سيدوم؛ لأنه غثاء لا قيمة له، وسرعان ما يزول ويبقى الماء النافع، وكما يتكون الزبَد على سطح الماء كذلك يتكوَّن عند صَهْر المعادن، فحين يصهر الصائغ مثلًا الذهب أو الفضة يخرج المعدن الأصيل تاركًا على الوجه الخبَث الذي خالطه.
لذلك يقول بعض العارفين: إن الله تعالى لا يترك الحق، ولا يُسْلمه أبدًا للباطل، إنما يتركه لحين ليبلو غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا على الحق غار هو سبحانه عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّنْ افترى عَلَى الله}.
هذا استفهام يريد منه الحق- سبحانه وتعالى- قضية يُقرها المقابل، فلم يوردها بصيغة الخبر: لا أظلم؛ لأن الخبر في ذاته يحتمل الصدق أو الكذب، فجاء بصيغة الاستفهام لتنطق أنت بالقضية، كما تقول لمن ينكر معروفك: مَنْ أعطاك هذا الثوب؟ فلا يملك إلا أنْ يعترف بفضلك، لكن إنْ قلت له إخبارًا: أنا أعطيتُك هذا الثوب، فالخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، وربما ينكر فيقول: لا لم تعطني شيئًا.
إذن: إيراد الكلام بأسلوب الاستفهام أقوى في تقرير واقع من أسلوب الخبر؛ لأن الخبر يأتي من المتكلم، أمّا الإقرار فمن السامع، وأنت لا تُلقي بالاستفهام إلا وأنت واثق أن الجواب سيأتي على وَفْق ما تريد.
فمعنى {وَمَنْ أَظْلَمُ} [العنكبوت: 68] لا أحد أظلم، والظلم: نَقْل الحق من صاحبه إلى غيره، والظلم قد يكون كبيرًا وعظيمًا، وهو الظلم في القمة في العقيدة، كما قال سبحانه: {إنَّ الشرك لَظُلْم عَظيم} [لقمان: 13].
وقد يكون الظلم بسيطًا هيّنًا، فالذي افترى على الله الكذب، لا أحدَ أظلم منه؛ لأنه لو افترى على مثله لكان أمره هينًا، لكنه افترى على مَنْ؟ على الله، فكان ظلمه عظيمًا، ومن الحمق أن تفتري على الله؛ لأنه سبحانه أقوى منك يستطيع أن يُدلل، وأنْ يبرهن على كذبك، ويستطيع أن يدحرك، وأن يُوقفك عند حدّك، فمَن اجترأ على هذا النوع من الظلم فإنما ظلم نفسه.
وقلنا: إن الافتراء كذب، لكنه متعمد؛ لأن الإنسان قد يكذب حين يخبر على مقتضى علمه، إنما الواقع خلاف ما يعلم، لذلك عرَّف العلماء الصدق والكذب فقالوا: الصدق أنْ يطابق الكلامُ الواقعَ، والكذب أن يخالف الكلامُ الواقعَ، فلو قلتُ خبراُ على مقتضى علمي، ولم أقصد مخالفة الواقع، فإن خالف كلامي الواقع فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس بكاذب.
وقوله سبحانه: {أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68] فيا ليته افترى على الله كذبًا ابتداءً، إنما صعَّد كذبه إلى مرحلة أخرى فعمد إلى أمر صدْق وحقٍّ فكذَّبه، ثم يقرر جزاء هذا التكذيب بأسلوب الاستفهام أيضًا {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافرينَ} [العنكبوت: 68] يعني: أضاقتْ عنهم النار، فليس بها أمكنة لهؤلاء؟ بلى بها أمكنة لهم، بدليل أنها ستقول وهي تتشوق إليهم حين تسأل: {هَل امتلأت وَتَقُولُ هَلْ من مَّزيدٍ} [ق: 30].
وكأن الحق سبحانه يقول: لماذا يفتري هؤلاء على الله الكذب؟ ولماذا يُكذّبون الحق؟ اعلموا أن جهنم ليس بها أماكن لهم؟ فالاستفهام في {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافرينَ} [العنكبوت: 68] استفهام إنكاري يُنكر أن يظن المكذبون الكافرون أنه لا مكان لهم في جهنم.
فالحق سبحانه في إرادته أزلًا أن يخلق الخَلْق من لَدُن آدم- عليه السلام- وإلى أنْ تقوم الساعة، وأنْ يعطيهم الاختيار: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وقدر أن يؤمنوا جميعًا فأعدَّ لهم أماكنهم في الجنة، وقدر أن يكفروا جميعًا فأعدَّ لهم أماكنهم في النار.
فإذا كان يوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النارَ، يورث الله المؤمنين في الجنة أماكن الكافرين فهيا فيتقاسمونها بينهم، وكذلك يتقاسم أهل النار أماكن المؤمنين في النار بالرد، فمَنْ كان له في النار مكان واحد يصير له مكانان.
كما أن الاستفهام {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافرينَ} [العنكبوت: 68] يجعل السامع يشاركك الكلام، وفيه معنى التقريع والتوبيخ، كما في قوله تعالى: {إنَّ الذين أَجْرَمُوا كَانُوا منَ الذين آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإذَا مَرُّوا بهمْ يَتَغَامَزُونَ وَإذَا انقلبوا إلى أَهْلهمُ انقلبوا فَكهينَ وَإذَا رَأَوْهُمْ قالوا إنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسلُوا عَلَيْهمْ حَافظينَ فاليوم الذين آمَنُوا منَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 29-36].
يلتفت الله إلى المؤمنين الذين اسْتُهزئ بهم في الدنيا: هل قدرنا أنْ نجازي هؤلاء الكافرين، ونردّ إليكم حقوقكم- وفي هذا إيناس للمؤمنين وتقريع للكافرين- فيقولون: نعم يا رب، نعم يا رب، نعم يا رب، فالحق سبحانه يريد أنْ يحرش المؤمنين بهم، فلا يلينون لهم، ولا يعطفون عليهم، لأنهم طَغَوْا وتكبَّروا، وعرضت عليهم الحجج والأدلة فكذَّبوها وأصرُّوا على عنادهم، فبالغوا في الظلم.
{وَالَّذينَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسنينَ (69)}.
نقول: جَهدَ فلان يجهد أي أتعب نفسه واجتهد: ألح في الاجتهاد وجاهد غيره، فجاهد تدل على المفاعلة والمشاركة، وهي لا تتم إلا بين طرفيْن، وفي هذه الصيغة المفاعلة نغلب الفاعلية في أحدهما والمفعولية في الآخر، مع أنهما شركاء في الفعل، فكلّ منهما فاعل في مرة، ومفعول في الأخرى، كأنك تقول: شارك زيد عمرًا، وشارك عمرو زيدًا. أو: أن الذي له ضلع أقوى في اشركة يكون فاعلًا والآخر مفعولًا.
وبعد أن بيَّن الحق سبحانه أن مثوى الكافرين المكذّبين في جهنم وحرَّش المؤمنين بهم، وما داموا قد ظَلموا هذا الظلم العظيم لابد أن يوجد تأديب لهم، هذا التأديب لا لإرغامهم على الإيمان، {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] إنما التأديب أن نجهر بدعوتنا، وأن نعلي كلمة الحق، فمن شاء فليؤمن، ومَنْ شاء فليظل على حاله، إذن: فالآية تبين موقف المؤمنين أمام هؤلاء المكذبين: {فينَا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
معنى {جاهدوا فينا} أي: من أجلنا ولنصرة ديننا، والخصومات التي نجاهدها في الله كثيرة: خصمة في مسألة القمة الإيمانية ووجود الإله الواحد كالملاحدة الذين يقولون بعدم وجود إله في الكون، وهؤلاء لهم جهاد، وأهل الشرك الذين يقرون بوجود الله لكن يدَّعُون أن له شريكًا، وهؤلاء لهم جهاد آخر.
فجهاد الملاحدة بالمنطق وبالحجة ليقولوا هم بأنفسهم بوجود إله واحد، ونقول لهم: هل وجد مَن ادعى أنه خلق ذاته أو خلق غيره؟ بل تأملوا في أتفه الأشياء التي تستخدمونها في حياتكم: هذا الكوب الزجاجي وهو ترف ليس من ضروريات الحياة هل تقولون: إنه وُجد هكذا دون صانع؟ إذن: كيف وُجد؟ هل لدينا شجرة مثلًا تطرح لنا هذه الأكواب؟
إذن: هي صنعة لها صانع، استخدم العقل الذي منحه الله إياه، وأعمله في المواد التي جعلها الله في الكون، واستنبط منها هذه المادة الزجاج.
مصباح الكهرباء الذي اخترعه إديسون كم أخذ منه من جهد وبحث ودراسة، ثم يحتاج في صناعته إلى معامل ومهندسين وصيانة، ومع ذلك حصاة صغيرة تكسره فينطفيء، وقد أخذ أديسون كثيرًا من الشهرة وخلّدنا ذكراه، وما زالت البشرية تذكر له فضله.
أفلا ينظرون في الشمس التي تنير الدنيا كلها منذ خلقها الله وإلى قيام الساعة دون أنْ تحتاج إلى صيانة، أو إلى قطعة غيار؟ وهل يستطيع أحد أن يتناولها ليصلحها؟ وهل تأبَّتْ الشمس عن الطلوع في يوم من الأيام، وما تزال تمدكم بالحرارة والأشعة والدفء والنور؟
أتعرف مَنْ صنع المصباح، ولا تعرف مَنْ صنع الشمس؟ لقد فكرتم في أتفه الأشياء وعرفتم مَنْ صنعها، وأرَّخْتُم لهم، وخلدتم ذكراهم، ألم يكن أَوْلَى بكم التفكُّر في عظمة خلق الله والإيمان به؟
ثم قُلْ لي أيها الملحد: إذا غشيك ظلام الليل، كيف تضيئه؟ قالوا: كل إنسان يضيء ظلام ليله على حَسْب قدرته، ففي الليل ترى الإضاءات مختلفة، هذا يجلس في ضوء شمعة، وهذا في ضوء لمبة جاز، وهذا في ضوء لمبة كهرباء، وآخر في ضوء لمبة نيون، فالأضواء في الليل متباينة تدل على إمكانات أصحابها، فإذا ما طلعتْ الشمس، وأضاء المصباح الرباني أطفئت كل هذه الأضواء، ولم يَعُدْ لها أثر مع مصباح الخالق الأعظم سبحانه.
أليس في هذا إشارة إلى أنه إذا جاءنا حكم من عند الله ينبغي أنْ نطرح أحكامنا جميعًا لنستضيء بحكم الله؟ أليس في صدق المحسوس دليل على صدق المعنويات؟
وأنت يا مَنْ تدّعي أن لله شريكًا في مُلكه: مَن الذي قال إن لله شريكًا؟ لقد قلتها أنت من عند نفسك؛ لأن الله تعالى حين قال: أنا إله واحد لا شريك لي لم يعارضه أحد، ولم يدَّع أحد أنه شريك لله.
فهذا دليل على أن الشريك غير موجود، أو أنه موجود ولم يَدْر، أو درى ولم يقدر على المواجهة، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلهًا.
ثم على فرض أنه موجود، ما منهجه؟ بماذا أمرك وعَمَّ نهاك؟ ماذا أعدَّ لك من النعيم إنْ عبدته؟ وماذا أعد لك من العذاب إنْ كفرتَ به؟ إذن: فهذا الإله المزعوم إله بلا منهج، فعبادته باطلة.
أما هؤلاء الذين يؤمنون بدين سماوي ولا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم فنقول لهم: يكفي من جوانب العظمة في شخصية محمد بن عبد الله أنه لا يتعصب لنفسه؛ لأن قلبه مع كل مَنْ يؤمن بالله حتى وإنْ كفر به، محمد يحب كل مَنْ آمن بربه، وإنْ كفر بمحمد، إنه يتعصب لربه حتى فيمن كذبه.
ثم أنتم يا أصحاب الديانات اليهودية أو المسيحية الذين عاصرتم ظهور الإسلام فأنكرتموه، مع أن دينكم جاء بعد دين، ورسولكم جاء بعد رسول سابق، فلماذا لما جاءكم محمد كذَّبتموه وكفرتم به؟ لماذا أبْحتم أنْ يأتي عيسى بعد موسى عليهما السلام، وأنكرتُم أنْ يأتي بعد عيسى محمد؟
إذن: لكل خصومة في دين الله جدل خاص ومنطق للمناقشة نقوم به في ضوء: {والذين جَاهَدُوا فينَا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وعليك أن تنظر أولًا ما موقع الجهاد الذي تقوم به، فجهاد الملاحدة بأسلوب، وجهاد المشركين بأسلوب، وجهاد أهل الكتاب بأسلوب، وجهاد المسلم للمسلم كذلك له منطق إنْ دبَّ بينهما الخلاف، مع أن الله تعالى قال: {إنَّ الذين فَرَّقُوا دينَهُمْ وَكَانُوا شيَعًا لَّسْتَ منْهُمْ في شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
فساعةَ ترى كلًا منهما في طرف، بحيث لا تستطيع أن تتبع أحدهما، فاعلم أنهما على باطل؛ لأن الإسلام شيء واحد سبق أنْ شبَّهناه بالماء الأبيض الصافي الذي لم يخالطه لون ولا رائحة ولا طعم، فإنْ لوَّنته الأهواء وتحزَّب الناس فيه كما يُلوّنون العصائر فقد جانبهم الصواب وأخطأوا الدين الصحيح.
لأن ما جاء فيه حكم صريح من عند الله اتفقنا عليه، وما تركه الله لاجتهادنا فينبغي على كُلٍّ منا أن يحترم اجتهاد الآخر، وأن يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب، وبهذا المنطق تتعايش الآراء.
والحق- سبحانه وتعالى- يعطينا المثل على ذلك، فما أراده سبحانه في المنهج مُحكمًا يأتي محكمًا في قول واحد لا خلاف فيه، وضربنا مثلًا لذلك بآية الوضوء: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْديَكُمْ إلَى المرافق} [المائدة: 6].
فلم يحدد الوجه؛ لأنه لا خلاف في تحديده بين الناس، إنما حدد الأيدي لأنها محل خلاف. إذن: فالقضايا التي تُثار بين المسلمين ينبغي أن يكون لها جدل خاص في هذا الإطار دون تعصُّب، فما جاءك مُحْكمًا لا مجالَ فيه لرأي التزم به الجميع، وما تُرك بلا تنصيص لا يحتمل الخلاف، فليذهب كل واحد إلى ما يحتمله النص.